(الميس.. الكلاس.. الدسك.. الباص.. الهوم ورك.. البريك.. الماث.. الساينس) كلمات صارت مألوفة وتقليدية جدا على ألسنة أطفالنا، لأنها ببساطة جزء طبيعي من قاموسهم اللغوي الهجين من كلمات ومصطلحات لها الصدارة ذات أصل أجنبي وكلمات أخرى ما زالت تنتمي إلى لغتنا العربية تستخدم للربط بين هذا السيل المتدفق من الكلمات الأجنبية، وحتى هذه الكلمات العربية تبدو فاقدة لألوان الحياة كافة، فمخارج الحروف تائهة على الشفاه وقواعد الصرف لا محل لها من الإعراب وركاكة التعبير هي حالة مسيطرة وقاعدة شبه مطردة حتى المدارس الإسلامية والتي تعنى بتعليم القرآن لم تستطع النجاة من هذا الطوفان الهادر فانتشرت بين صفوف أطفالها الصغار العديد والعديد من المصطلحات جنبًا إلى جنب مع تعلم القرآن الكريم مع فارق بسيط أن هذه الكلمات الأجنبية هي كلمات حياتية من الطراز الأول، فكانت النتيجة مخالفة تمامًا للهدف الذي خططت له هذه المدارس، فبينما كان الهدف تعليم الأطفال القرآن ولغته مع إجادة لغة ثانية لمتابعة آخر المستجدات العلمية أي أن اللغة الثانية ليست لغة للحياة والتواصل وإنما مجرد لغة للاستزادة العلمية وهو ما لم يحدث فلم يستطع مصطلح معلمة أو آنسة أن يتغلب على المصطلح الشهير الميس تمامًا كما لم ينتشر استخدام لفظ السيارة بديلًا عن الباص وهكذا..
رؤية حضارية:
القضية أكبر بكثير من مجرد ألفاظ ومصطلحات غريبة تتدفق فتستعمر ألسنتنا وألسنة أطفالنا ولكنها قضية أمة مستلبة وحضارة عريقة تبحث عمن ينصفها ويزيل عنها الغبار حتى يعود لها رونقها، إنها قضية لغة شرفها رب العالمين بنزول آخر كتبه بلسانها يقول تعالى: {بلسان عربي مبين} ويقول: {قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون} ويقول: {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}.. وعلى الرغم من ذلك ورويدا رويدا تتباعد المسافات بيننا وبينها ليأتي أبناؤنا- أبناء عصر العولمة- وهم يشعرون بالاغتراب عنها وبالتالي بالاغتراب عن حضارتنا التي امتزجت بهذه اللغة فلا حضارة من دون لغة، تلك الحضارة التي كانت تطبيقات بشرية لمفاهيم قرآنية في ظل سياق تاريخي والآن في ظل العولمة أو الأمركة وفي ظل الاغتراب عن لغة القرآن أو تهميشها وعدم التواصل معها.. فأي مستقبل ينتظر حضارتنا؟
إنها ليست دعوة للتشاؤم بحال ولا رغبة في اجترار تراث الوقوف على الأطلال ولكنها دعوة لقراءة الواقع بعين منتبهة دون تخيل الحلم واقعًا أو إهدار الواقع في رثائه والتقوقع داخل سلبياته وأحزانه.
لابد لنا من المثابرة على التمسك بالحلم والعمل من أجل تحقيقه فإذا كان على المسلم الذي بدأت أحداث القيامة تتحرك أمام عينيه وهو يحمل في يده فسيلة أن يحاول جاهدا أن يزرعها كما جاء في الحديث الشريف فإن علينا أن نعمل ونحن نحمل هذه الروح اليقظة الحساسة عالية الهمة من أجل أن نستعيد لغتنا الجميلة ومن ثم حضارتنا العظيمة.
جماليات اللغة:
التربية اللغوية هي أولى وأهم خطوات الانتصار الحضاري وهذا يتطلب أن ننتبه أولًا إلى هذا النوع من التربية ونمنحه حقه جهدًا ووقتًا، لابد أن يستشعر الأبناء جماليات اللغة ويتذوقوها ويستشعروا موسيقاها الداخلية، ولعل تعليم الأطفال الصغار القرآن بأحكامه الصحيحة من مد وقصر وإدغام وإخفاء ونحو ذلك وبمخارج النطق السليمة أهم الوسائل التي تعين على ذلك الأمر مع مراعاة أن يكون الاستماع هو الطريق لتحقيق ذلك فليس من المهم أن يعرف الطفل الصغير القاعدة النظرية وإنما المهم اكتسابه المهارة العملية وشعوره بجمالها فننمي مشاعره تجاه اللغة بموسيقاها الداخلية والخارجية حتى يستشعر جمال النص وإن لم يفهم معناه وبحيث يجفل تلقائيًّا من الأسلوب الركيك والمزين بالرطانة الأجنبية.
كما أن هذا التعلم لابد أن يكون عن طريق الحب ودون إكراه فليس كم المحفوظ هو المعيار الأساسي وإنما كيفية الحفظ والنطق والتفاعل والتواصل مع النص هو العامل الأهم ولابد من الاهتمام بكل الأبعاد التربوية الأخرى أثناء هذه التربية اللغوية فلكل طفل قدراته في التعلم ونحو ذلك.
استعلاء حضاري:
والاستعلاء المقصود ليس بمعنى الكبر والغرور ولا هو منطق الفاشيين والنازيين وإنما هو المقصود بقوله تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون} [آل عمران: 139].. لابد أن يستشعر الأبناء هذا الاستعلاء، لابد طبعا من أن يستشعره الآباء والمعلمون، فما لم نتجاوز مشاعر الهزيمة الحضارية أمام الآخر المنتصر آنيًّا بجيوشه ومخترعاته ونظمه وبالتالي ندور في فلكه ونتسول لغته عسى أن نشبهه ولو شكليًّا سنظل هكذا تائهين في حالة دوران حول الذات وفي فلك الآخر الذي يتعامل معنا بكل وحشية واستهانة واستهزاء، فلا بد إذن من كسر هذه الدائرة الجهنمية التي يريدون لنا ولأجيالنا الجديدة أن نظل داخلها أبدا ولن يحدث ذلك إلا باستعلاء إيماني واستعلاء حضاري واستعلاء قيمي واستعلاء لغوي، هذا الاستعلاء ربما حتى يسبق حالة التربية اللغوية ذاتها وبالطبع لابد له أن يصحبها، إن العمل على تعريب المجتمع هو التطبيق العملي للتحرر الحضاري والخطوة الأولى لهذا التعريب هو بث تلك الروح الجديدة المعتزة بلغتها والممتنة لهذه اللغة بحيث يكون تعلمها أكثر من مجرد واجب فهو تعلم ماتع لأنه عن حب واقتناع، وفي هذا الصدد لابد أن نعتبر كتابة القصص والأناشيد للأطفال بأسلوب لغوي شائق وبسيط ودفعهم من خلال هذه الأعمال الأدبية إلى الفخر بلغتهم وازدراء من يخلطها بأخرى أحد أهم أهداف الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة، لأن هذا التغيير يستهدف البنية العميقة للمجتمع وهو ما يعد خيارًا استراتيجيًّا للحركة الإسلامية.
الكاتب: فاطمة عبد الرءوف.
المصدر: موقع رسالة الإسلام.